الخميس، 3 نوفمبر 2016

Text Box: P

المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى اله وصحبه، ومن سار على هديه، وبعد؛ فهذا بحث بلاغي وضعته عن عالم من علماء القرن الثامن الهجري هو: ابو عبد الله، شمس الدين، محمد بن أبي بكر ابن قيّم الجوزية  المتوفى سنة(751 هـ).
وذلك بعد أن ترسخت لدي رغبة علمية في البحث البلاغي منذ دراستي الأولية ولما تهيأت لي ظروف التخصص الدقيق في العربية وعلومها سعيت إلى تحقيق تلك الرغبة. إذن فالدافع الرئيس لاختياري (ابن قيّم الجوزية  بلاغيا) موضوعا لبحثي هذا؛ هو الرغبة الشخصية في النهل والاطلاع على تراثنا الخالد.
أما السبب الآخر الذي دفعني إلى اختيار هذا الموضوع عنواناً لرسالتي فيتجلى في شخص العالم ابن قيّم الجوزية  الذي يعد واحدا من أبرز أعلام البلاغة العربية في القرن الثامن للهجرة. وقد عرف فيما كتبه من مصنفات تشعب البحث البلاغي فيها؛ بين الدراسات البلاغية المتخصصة وعلوم القرآن وإعجازه وتفسير آياته. ولاشك في أن عالما متنوع الاهتمامات الفكرية ليستحق العناية والاهتمام.
أما السبب الثالث فيقف وراءه معرفة بأن ابن قيّم الجوزية  لم يدرس دراسة بلاغية متخصصة من خلال عمل علمي مستقل، لذا وجدت الضرورة العلمية تدعوني إلى تناول جهوده هذه.
هذه هي أهم الأسباب التي دعتني إلى اختيار (ابن قيّم الجوزية  بلاغيا) موضوعا لرسالتي.
أما خطواتي التي اتبعتها في البحث فقامت على: أولاً: بدأت بالحديث عن الفن البلاغي ببيانه لغة واصطلاحا ثم أُعرِّجُ على جهود العلماء الذين سبقوا ابن قيّم الجوزية  ممن أشاروا إلى ذلك الفن البلاغي  في الإشارة إلى تلك الظواهر وبيان دوره في تصنيفها وتوضيحها وذكر شواهدها سواء أكانت آيات قرآنية أم أحاديث نبوية أم أبياتاً شعرية إلى جانب جهده المميز أحياناً في تفسير الآيات القرآنية خاصة للوقوف على أسرار بلاغة تلك الفنون.
وقد حاولت قدر المستطاع في هذا الجانب من البحث أن أسلط الضوء على المواضع الفكرية التي عدت مواطن تفرد بها ابن قيّم الجوزية  عمّن سواه من البلاغيين.
ثانيا: وما كان يتعلق بالمصطلحات وهي كثيرة فقد تناولتها من ثلاثة مستويات هي: الموقع والتعريف والتسمية، لأني اعتقد بأن أية دراسة مصطلحية لا تأخذ هذه المستويات الثلاثة بنظر الاعتبار لن تكون مجدية، ذات نتائج موضوعية. وأظن أن المزية الرئيسة البارزة لبحثنا هذا مقارنة بالبحوث البلاغية الأخرى؛ هي تخريج الأحاديث الشريفة في كتب المسانيد والصحاح والكتب العامة. وأيضاً تخريج الأبيات أو المقطوعات الشعرية في الدواوين الشعرية للشعراء ونسبة الأبيات إلى قائليها. وما لم أقف على  تخريجه من الكتب بينته في الهامش.
أما خطة الرسالة فقد اقتضت طبيعة البحث بعد استكمال مادته أن تقسم على ثلاثة فصول يسبقها تمهيد في محورين: الأول: ترجمة حياة ابن قيّم الجوزية  الشخصية، تبدأ باسمه ونسبه ثم بولادته، وشهرته، وشيوخه، وتلامذته، ورحلاته وأخيرا بوفاته.الثاني: جهوده الفكرية ، وذلك من خلال ذكر آثاره ، وبيان مذهبه الذي يدين به، ومنهجه البلاغي في التعرض للبلاغة قضايا وفنوناً.
وفي الفصل الأول الذي سميته : علم البيان عند ابن قيّم الجوزية  ثلاثة مباحث. بحثت في المبحث الأول مفردات: البيان والبلاغة والفصاحة والإعجاز عند ابن القيم. وفي المبحث الثاني : درست الحقيقة والمجاز، وأقسام المجاز عنده. وتطرق المبحث الثالث إلى الأساليب البيانية عند ابن قيّم الجوزية ، كالتشبيه والمثل والاستعارة والكناية.
وجاء الفصل الثاني وسميته: علم المعاني عند ابن قيّم الجوزية  مقسماً على ثلاثة مباحث، المبحث الأول تناولت فيه الخبر والإنشاء، وأغراض الخبر، ثم أقسام الإنشاء. والمبحث الثاني خصصته للتقديم والتأخير وأقسام التقديم والتأخير ومن ثم أسباب التقديم والتأخير عند ابن قيّم الجوزية  والمبحث الثالث درست فيه الإيجاز والإطناب والمساواة والمسائل المتعلقة بهذه المصطلحات من أقسام وأنواع.
أما الفصل الثالث والأخير فقد سميته : علم البديع عند ابن قيّم الجوزية  ووزعته على قسمين:الأول: وعنوانه الفنون البديعية التي خصت بعلم المعاني عند ابن قيّم الجوزية ، والثاني وعنوانه: الفنون البديعية التي خصت بعلم البديع عند ابن قيّم الجوزية.
وختم البحث بخاتمة هي خلاصته وأهم النتائج التي توصل اليها البحث.
إنّ في هذه الفصول قد ألزمنا مراجعة كتب البلاغة العامة وكتب البلاغة المتخصصة ومصادر النقد ومباحث علوم القرآن وإعجازه، سواء كانت كتباً تراثية قديمة أو مراجع معاصرة.
ثالثا: انتهجت في قراءة البحث البلاغي لدى ابن قيّم الجوزية  المنهج البلاغي القائم على التقسيم الثلاثي للبلاغة؛ أي علوم البيان والمعاني والبديع، وإن لم يكن هذا التقسيم الذي اتبعه ابن قيّم الجوزية  في بحثه البلاغي، ولاسيما في كتابه الفوائد . ولعل السبب في اجرائي هذا ؛ انما يعود لكون التقسيم الثلاثي هو آخر ما استقرت عليه الدراسات البلاغية. فهناك شبه اجماع من قبل البلاغيين لا سيما المتأخرين منهم عليه. ومن جانب آخر فهذا التقسيم لعلوم البلاغة يجعل من السهولة الإحاطة التامة بكل فنونها وأساليبها موزعة على العلوم الثلاثة. وهذه الإحاطة الشاملة والاستقصاء الكامل للفنون البلاغية عند ابن قيّم الجوزية  لم يكن ممكناً إذا ما اعتمدنا منهجاُ غير الذي ذكرناه.
إلاّ إنني قد جوبهت ومنذ أن شرعت في اختيار الموضوع بطائفة من الصعاب والمعوقات التي تجابه أي باحث. ولعل من أهمها صعوبة التقاط الأقوال والإشارات البلاغية لابن قيّم الجوزية  من جميع كتبه وهي كثيرة العدد، فلقد بلغت كتبه المطبوعة أربعة وثلاثين كتاباً ، وفي بعض الأحيان يبلغ الكتاب الواحد عدة مجلدات عدة مما يجعل الاحاطة بالجهد البلاغي لابن قيّم الجوزية  عملية صعبة وتتطلب الدقة والكثير من الوقت والجهد.
ومهما يكن فإن هذه العوائق لم تثبط عزيمتي وانما تجاوزتها مستعينا برغبتي في اتمام البحث على أكمل وجه مستعينا بالله أولاً ومن ثم بالعاملين المخلصين في هذا الميدان.
وبعد ، فقد بذلت في هذا البحث ما استطعت من جهد بما يقتضيه البحث العلمي الجاد، ولابد لي من القول بأن ثمة من كان له الفضل بعد لطف الله تعالى في إخراجه بهذا الشكل ويقف في مقدمة هؤلاء، الأستاذة المشرفة الدكتورة بشرى محمد طه البشير التي تفضلت مشكورة بالإشراف على هذا البحث فأعطتني من جهدها العلمي ووقتها الكثير ، ناصحة وموجهة لكي يخرج هذا البحث متكاملاً أو قريباً من ذلك ، فلا يسعني إلا أن أدعو الله عز وجل أن يوفقها لما فيه الخير وتنفعنا وتنفع البلاغة العربية بعلمها الثر.
كما أتوجه بشكري وتقديري إلى جميع أساتذة اللغة العربية في كلية التربية ، كما أشكر جميع من مدّ يد العون والمساعدة على هذه الرحلة الشاقة الشيقة التي أمضيتها مع خطوات هذا البحث، ولايفوتني أن أسديَ الشكر والتقدير لكل من قدم لي العون والمساعدة من العاملين في المكتبات.
وفي الختام أدعو الباري عز وجل أن يعصمنا من الخطأ والزلل ويهدينا سواء السبيل أنه نعم المولى ونعم النصير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
                                                               


                                                                 الباحث
                                                   رعد رفعة محمد





التمهيد
أولاً : حياته الشخصية
اسمه ونسبه:
هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن ايوب بن سَعْد بن حَرْيز بن مكِّي، زينُ الدين، الزرعي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قيّم الجوزية ([1])
ولادته:
تذكر كتب التراجم أن ولادته كانت في اليوم السابع من شهر صَفَر سنة 691هـ([2])
شهرته:
اشتهر بين أهل العلم، المتقدمين منهم والمتأخرين بـ (ابن قيّم الجوزية ). ومنهم من يتجوز فيقول: (ابن القيّم) وهو الأكثر لدى المتأخرين([3]).
شيوخه:
عدّ بكر بن عبد الله أبو زيد من شيوخ ابن قيّم الجوزية  واحداً وعشرين شيخاً، وترجم لكل واحد منهم([4])
أمّا مشاهير شيوخه وأهل العلم الذين لهم الأثر في تكوينه الفكري ونضجه العلمي فهم:
1- قيّم الجوزية([5]):
        والده أبو بكر بن أيوب.
2- ابن عبد الدائم([6])
        زين الدين أبو بكر ، أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي. توفي سنة 718هـ.
3- شيخ الإسلام ابن تيمية([7]).
        ابو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام النميري (ت728هـ)، وكان اتصال ابن قيّم الجوزية  به إثر عودته من مصر سنة 712هـ، فقد اتصل به ولازمه، وكان لذلك اثر عظيم في توجهه العلمي، وفضلاً عما سلف له من الاشتغال، أخذ عنه التفسير ، والحديث ، والفقه، والفرائض، والأصلين، وعلم الكلام([8]).
4- شرفُ الدين بن تيمية([9]).
        عبد الله ، أبو محمد بن عبد الحليم بن تيمية، أخو الشيخ، توفي سنة 727هـ.
5- فاطمةُ بنتُ جَوْهَر([10]):
    أم محمد بنت الشيخ إبراهيم بن محمود بن جوهر البطائحي البعلي، توفيت             سنة:    711هـ.
6- الصَّفيُّ الهِندي([11]).
    محمد صفي الدين بن عبد الرحيم بن محمد الأربوي ثم الهندي، توفي سنة:715هـ.
7- المجد الحراني([12]).
    مجد الدين إسماعيل بن محمد الفراء الحراني، شيخ الحنابلة بدمشق، توفي            سنة: 729هـ.
8- ابن مكتوم([13]).
    إسماعيل أبو الفداء بن يوسف بن مكتوم القيسي الدمشقي، الشافعي، توفي سنة: 716هـ.
تلامذته:
كان من الطبيعي وقد تنوعت ملكات ابن قيّم الجوزية  أن تكون له مدرسة وأن يقصده الطلاب من كل مكان، ينهلون من علمه ، وقد أخذ عنه العلم خلق كثير، وانتفعوا به.
وقد استطاع الأستاذ أيمن عبد الرزاق الشوّا أن يحصي عدداً من تلامذة ابن القيم حتى أوصلهم أحد عشر عالماً ([14])، ومن اشهرهم: الصفدي (ت 764هـ)([15])، وابن كثير               (ت 774هـ)، وابن رجب (ت 795هـ).
رحلاته:
قضى ابن قيّم الجوزية  ((معظم حياته بالشام، وارتحل عنها للحج مرات متعددة، وجاور بمكة مدة من الزمن، وانتقل إلى القاهرة أيضاً))([16]).
وفاته:
تذكر كتب التراجم أن وفاة ابن قيّم الجوزية  كانت ليلة الخميس في الثالث عشر من رجب، وقت اذان العشاء، سنة إحدى وخمسين وسبعمائة من الهجرة([17]).
ثانياً: جهوده الفكرية:
آثاره:
ظهرت في العصر الحديث كتب كثيرة عن ابن قيّم الجوزية  ، ونشرت عنه وعن جوانب فكره وتراثه بحوث ومقالات كثيرة ، واهتم عدد غير قليل من المحققين بتحقيق ما سلم من كتبه ورسائله، وتحديد ما لم يصل منها. فقد حاول الأستاذ أيمن عبد الرزاق الشوّا الإحاطة بآثار ابن قيّم الجوزية  المخطوطة والمفقودة حتى أوصلها إلى واحد وتسعين مؤلفاً بأسمائها([18]).
ولكننا سنذكر الكتب المطبوعة منها ، وذلك حسب الترتيب الهجائي لأسماء الكتب:
1-     اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية.
2-     أحكام أهل الذمة.
3-     أسماء مؤلفات ابن تيمية.
4-     إعلام الموقعين عن ربِّ العالمين.
5-     إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان.
6-     إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان.
7-     أمثال القرآن.
8-     بدائع الفوائد.
9-     التبيان في أقسام القرآن.
10-   تحفة المودود بأحكام المولود.
11-   تهذيب سنن أبي داود.
12-   جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام.
13-   الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي.
14-   حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
15-   حكم تارك الصلاة.
16-   الرسالة التبوكية.
17-   الروح.
18-   روضة المحبين ونزهة المشتاقين.
19-   زاد المعاد في هدي خير العباد.
20-   شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل.
21-   الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.
22-   الصلاة وحكم تاركها.
23-   الطرق الحُكمية في السياسة الشرعية.
24-   طريق الهجرتين وباب السعادتين.
25-   عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين.
26-   الفروسية.
27-   الفوائد.
28-   الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان.
29-   الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية المسماة بـ(القصيدة النونية).
30-   مدارج السالكين في منازل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
31-   مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم الإرادة.
32-   المنار المنيف في التمييز بين الصحيح والضعيف.
33-   هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى.
34-   الوابل الصيِّب من الكلم الطيب.
وجدير بالذكر ، أن هناك كتاباً باسم (أخبار النساء) قد نسب خطأً لابن قيّم الجوزية . فقد أنكر الأستاذ أحمد عبيد نسبته إليه، ونبه على أنه لم يذكر أحد من المحققين أنه له([19]). والواقع أن أسلوب الكتاب يغاير أسلوب ابن قيّم الجوزية  في مصنفاته كلها.
مذهبه:
التزم ابن قيّم الجوزية  في مباحثه الفقهيه إتباع الدليل، ونبذ التعصب الذميم، فقد سعى إلى إبراز الأحكام الفقهية من أصولها، من الكتاب والسنة في مقامها الأول، وربما استأنس بآراء الأئمة الفقهاء، ما وجد الدليل الواضح معهم، فهو يحكي أقوالهم ويوازن بينها، ولم يمنعه مسلكه أن يخالف عشرات المسائل ما وجد إلى الدليل سبيلا:
إنّا تحيَّزنا إلى القرآن
وكذا إلى العقل الصريح


والنقل الصحيح مفسر القران
وفطرة الرحمن قبل تغير الإنسان([20])

ولاشك في أن الكلام على مذهبه أحد مقتضيات الكلام على مذهبه البلاغي، لبيان نظرته البلاغية ولفتاته القيمة ولاسيما في تفسير بعض الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة. وتبعا لذلك كان نقده  لآراء البلاغيين ونظرته للمسائل الخلافية .وقد عبر عن ذلك، فقال: ((أن عادتنا في مسائل الدين كلها، دقها وجلها أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة، بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها خلاف الحق، ولانستثني من ذلك طائفة ولامقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه))([21]).
سوف نتناول المنهج البلاغي عند ابن قيّم الجوزية  في محورين أساسيين:
أولا: منهجه في تناول علوم وفنون البلاغة المتعارف عليها فعندما ألّفَ ابن قيّم الجوزية  كتابه البلاغي (الفوائد المشوق إلى علوم القران وعلم البيان)، لم يتقيد بمنهج من سبقه من العلماء، فهو لم يتأثر بمنهج عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) وأسامة بن منقذ (ت584هـ) والرازي (ت 606هـ) والسكاكي (ت 626هـ) وابن الأثير (ت 637هـ) والخطيب القزويني (ت 739هـ) وإنما خطَّ لنفسه منهجا خاصا في تناول علوم وفنون البلاغة فقد قسَّم كتابه على اثنين وثلاثين ومائة قسم؛ منها أربعة وعشرون في المجاز وأربعة وثمانون فيما يخص المعنى، وأربعة وعشرون فيما يتعلق باللفظ،أي ما تعلق بالبديع ((ويبدو في كتابه تقسيمان واضحان للبلاغة، فقد بحث في قسم الفصاحة الاستعارة، والتشبيه، والمجاز، والتقديم والتأخير، والإيجاز والاختصار. وتكلم في الثاني على ما يختص بالمعاني، وذكر فيه الكناية، والتعريض والموضوعات التي اعتبرها السكاكي محسنات لفظية ومعنوية))([22]).
ونلاحظ أن ابن قيّم الجوزية  استطاع أن يوسع بحث المجاز. فأدخل فيه التشبيه، والمجاز بأنواعه المعروفة والإيجاز، والاختصار، والحذف، والتقديم والتأخير، ((وهذا ما لا نجده عند غيره))([23]). وفصّل في بحث المجاز المرسل وفرّعه ونوّعه إلى ضروب مختلفة، وأشار إلى علاقاته الكثيرة، وعقد بابا كبيراً تحدث فيه عن أربعة وثمانين موضوعا ((أدخل القزويني بعضها في المحسنات المعنوية، والبعض الآخر في علم البيان. فمن النوع الأول الذي ذكره الخطيب في المحسنات المعنوية الاستطراد، والتورية والاحتجاج النظري (المذهب الكلامي)، والهزل الذي يراد به الجد، والتجريد. ومن النوع الثاني الذي أدخله في المعاني: التكميل، والتتميم، والاعتراض، والإطناب، والتكرار، والالتفاف. ومن النوع الثالث الذي ادخله جلال الدين في البيان: الكناية، والتعريض، وذكر ابن الجوزية في هذا الباب موضوعات اعتبرها القزويني ملحقة بالبديع وهي حسن التخلص والاقتضاب والاقتباس. وفي هذا الباب موضوعات لم يتكلم عليها البلاغيون في كتبهم البلاغية كالغزل والتشبيب))([24]). وتناول في الفن الثاني من فنون كتابه الفوائد البحث في الألفاظ من الفصاحة، فقد قال ((وهذا الفن يسمى أيضا البديع، والبديع علم يبحث فيه عن أحوال اللفظ المؤلف من حيث لا يمكن أن يؤتى به إلا بحسن النظام))([25]).
وقد تحدث فيه عن موضوعات كثيرة أدخل القزويني بعضها في البديع كالاشتقاق، والتسجيع، والترصيع، والتوشيح، ولزوم ما لا يلزم، ورد العجز على الصدر، وتكلم على موضوعات لم يدخلها القزويني في البديع كالكلام على التهذيب، والانسجام والجزالة، والرذالة، والسهل الممتنع، والرشاقة، والجهامة([26]).  وبذلك يكون هذا الفن عند ابن قيم ((أوسع أفقاً من البديع الذي وضع السكاكي خطوطه العامة، وأرسى القزويني قواعده وأصوله))([27]) .
المحور الثاني: منهجه في تناول مسائل وقضايا الفنون البلاغية وكيفية معالجة الشواهد وشروحها. وقبل أن نبين منهج ابن قيّم الجوزية  في هذه المسائل حريٌّ بنا  الإشارة إلى منهجين في قراءة القضايا البلاغية، شكّل كلٌ منهما مدرسة خاصة به وهما:
1.  المدرسة الأدبية: وكان من خصائص منهجها ((أنها تستعمل المقاييس الفنية في الحكم على الأدب؛ لذلك نجدها مرة تستطيع التعليل، ومرة لا تستطيع ذلك وتلجأ إلى الذوق والإحساس الفني وأن رجالها أكثروا من الشواهد والأمثلة، ولم تكن أمثلتهم مقصورة على الجملة القصيرة أو بيت شعر وإنما تعدّتها إلى القطعة أو الرسالة وكادت القاعدة تضيع في خضم الشواهد الكثيرة والتحليل))([28]).
2.  المدرسة الكلامية: ومنهجها يختص بـ ((الاهتمام بالتحديد والتعريف والتقسيم المنطقي، والاهتمام بأن يكون التعريف جامعا مانعا...ثم استعمال أساليب الفلسفة والمنطق في تحديد الموضوعات وتقسيمها وحصرها، .. والإقلال من الشواهد والأمثلة الأدبية))([29]).
فإلى أي المدرستين ينتمي ابن قيم الجوزية؟
      نقول إن ابن قيّم الجوزية  قد ((انفرد عن غيره من علماء البلاغة في عصره، فهو يضع منهجا لكل موضوع ثم يشرع بعد ذلك في الكلام على كل نقطة ذكرها في مطلع الفصل المعقود من أجله)([30]).
     ولكنه مع ذلك لم يستطع التخلص من ولعه بالتفريعات والتقسيمات حتى لنراه يشعب المسألة الواحدة إلى مسائل عدة ([31]).
ولكن هذه التفريعات والتقسيمات المنطقية لا تنطبق إلا على كتابه (الفوائد المشوق إلى علوم القران وعلم البيان) الذي خصّصَهُ لدراسة الأساليب والفنون البلاغية في القران لبيان إعجازه. فنلمس في كتابه هذا بروز شخصيته الأصولية في تناوله التقسيمات وإيراد الشواهد ولكننا نرى في كتبه الأخرى، ولا سيما (بدائع الفوائد) انه ذو حس بلاغي مرهف وذوق أدبي عال وإنه مفسر بارع متميز ممّن سواه في قراءة النصوص القرآنية وتعليل الأبيات الشعرية. وهذا ما سيتضح في دراستنا جهده البلاغي ولاسيما في الفصل الأول وكثيرٍ من الفصل الثاني. ولكن أكثر الباحثين لم يشيروا إلى هذه النقطة، لأنهم لم يدرسوا جميع كتبه واقتصروا على كتابه (الفوائد المشوق) ، لهذا جاءت دراساتهم ناقصة وغير مستوفية جميع جوانب جهده البلاغي.
وبناء على ما تقدم نستطيع الادعاء بأن ابن قيم الجوزية قد مزج بين المدرستين وبحسب ما يتطلبه منه مقام الموضوع ((وذلك لأن كثيراً من البلاغين يمزجون بين الطريقتين))([32]).
            




(([1]) ينظر الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة: ابن حجر العسقلاني، دار الجيل، بيروت: 2/234 . وابن قيم الجوزية حياته وآثاره: ، بكر بن عبد الله أبو زيد، ط2، مكتبة الرشد، الرياض، 1403- 1983م: 7.
([2]) ينظر ذيل طبقات الحنابلة: ابن رجب، دار المعرفة، بيروت: 2/249. وشذرات الذهب : ابن عماد الحنبلي، دار الآفاق الجديدة: 6/168. وحياة الإمام ابن قيم الجوزية، مسلم الغنيمي، ط1، المكتب الإسلامي، دمشق، 1397هـ: 98.
([3]) ينظر البداية والنهاية ، ابن كثير، مكتبة النصر- الرياض، مكتبة المعارف- بيروت، 1966: 13/28.
([4]) ينظر ابن قيّم الجوزية   حياته وآثاره : 99-107.
([5]) ينظر البداية والنهاية : 14/95، والدرر الكامنة : 1/472.
([6]) ينظر الوافي بالوفيات، صلاح الدين خليل بن ايبك الصفدي، باعتناء: س. ديدرينغ فيسبادن – ألمانيا، 1974: 2/70.  والبداية والنهاية : 14/234.
([7]) ينظر م.ن: 2/270، والبداية والنهاية : 14/234.
([8]) ينظر البداية والنهاية : 14/234، ومعجم المؤلفين ، عمر رضا كحالة، مطبعة الترقي، دمشق ، 1376هـ- 1957م: 91/106.
([9]) ينظر الوافي بالوفيات : 2/207 ، الدرر الكامنة 4/132، البداية والنهاية : 14/65.
([10]) ينظر ذيل طبقات الحنابلة: 2/448، طبقات المفسرين، محمد بن علي الداوودي، تحقيق: علي محمد عمر، ط1، مكتبة وهبة، القاهرة، 1392هـ- 1972م: 2/91.
([11]) ينظر الوافي بالوفيات: 2/207، الدرر الكامنة 4/132، البداية والنهاية: 14/65.
([12]) ينظر م.ن: 2/70-71، شذرات الذهب: 6/89.
([13]) ينظر م.ن: 2/270، الدرر الكامنة: 4/21.
([14]) ينظر الإمام ابن قيّم الجوزية وآراؤه النحوية، ايمن عبد الرزاق الشوّا، ط1، دار البشائر، دمشق، 1416هـ-1995: 45-49.
([15]) هو خليل بن أيبك بن عبد الله ، أبو الصفا، الصفدي، الشافعي، توفي بدمشق سنة (764هـ)، ينظر شذرات الذهب، 6/ 200
([16]) البحث الدلالي عند ابن قيّم الجوزية، خيري جبير الجميلي، أطروحة دكتوراه، بإشراف الدكتور ماهر مهدي هلال، جامعة بغداد، كلية الآداب، 1421هـ-2000م: 7.
([17]) ينظر البداية والنهاية: 14/252، ذيل طبقات الحنابلة: 2/450.
([18]) ينظر الإمام ابن قيّم الجوزية   وآراؤه النحوية: 67-79.
([19]) ينظر مقدمة روضة المحبين ونزهة المشتاقين، ابن قيم الجوزية، دار الوعي، حلب، 1397هـ: ت.
([20]) الكافية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية المسمى بـ (القصيدة النونية)، ابن قيم الجوزية، تحقيق: عبد الله بن احمد العمير، ط1، دار ابن خزيمة،: 1996: 166.
([21]) طريق الهجرتين وباب السعادتين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: يوسف علي بديوي، ط3، دار ابن كثير، دمشق- بيروت، 1420هـ- 2000م: 482 – 483.
([22]) مناهج بلاغية، د. احمد مطلوب، ط1، وكالة المطبوعات، بيروت، 1393هـ-1973م: 74 – 75.
([23]) القزويني وشروح التلخيص، د. احمد مطلوب، ط1، دار التضامن، بغداد، 1387هـ- 1967م:518.
([24]) م.ن:518.
([25]) الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان، ابن قيم الجوزية، تحقيق: لجنة تحقيق التراث، دار ومكتبة الهلال، بيروت، لبنان: 299.
([26]) ينظر: مناهج بلاغية: 76.
([27]) القزويني وشروح التلخيص:519 – 520.
([28]) البلاغة العربية (المعاني والبيان والبديع) ، د. احمد مطلوب، ط1، المكتبة الوطنية ببغداد، 1400هـ -1980م. : 26
([29]) البلاغة العربية: 27.
([30]) القزويني وشروح التلخيص: 518 .
([31]) ينظر:م.ن: 517.
([32]) البلاغة العربية (المعاني والبيان والبديع): 28.

هناك تعليقان (2):


  1. This is a wonderful work we wish you success and excellence and thank you

    شركة شام للخدمات المنزليه هي من افضل الشركات التي تعمل في مجال الخدمات المنزليه وذلك بسبب امتلاكها للعديد من عناصر التميز مثل الايدي العامله المدربه صاحبة الخبره العاليه في هذا المجال وايضا التقنيات الحديثه التي تستخدمها الشركة في تنفيذ ما تقدمه من خدمات , ومن الخدمات التي تسعد شركة شام بتقديمها لعملائها الكرام مايلي

    شركة رش مبيدات بالدمام

    شركة مكافحة حشرات بالدمام

    شركة مكافحة نمل ابيض بالدمام

    عزيزي العميل لا تقلق ولا تحتار فشركة شام هي افضل اختيار

    ردحذف